فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{فإِذا نُفِخ فِي الصُّورِ نفْخةٌ واحِدةٌ (13)}
الفاء لتفريع ما بعدها على التهويل الذي صُدرت به السورة من قوله: {الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقّة} [الحاقة: 13] فعلم أنه تهويل لأمر العذاب الذي هُدد به المشركون من أمثال ما نال أمثالهم في الدنيا.
ومن عذاب الآخرة الذي ينتظرهم، فلما أتم تهديدهم بعذاب الدنيا فرع عليه إنذارهم بعذاب الآخرة الذي يحل عند القارعة التي كذبوا بها كما كذبت بها ثمود وعاد، فحصل من هذا بيان للقارعة بأنها ساعة البعثثِ وهي الواقعة.
و{الصور}: قرن ثوْر يقعر ويجعل في داخله سِداد يسُد بعض فراغه حتى إذا نفخ فيه نافخ انضغط الهواء فصوّت صوتا قويا، وكانت الجنود تتخذه لنداء بعضهم بعضا عند إرادة النفير أو الهجوم، وتقدم عند قوله تعالى: {وله المُلْك يوم ينفخ في الصور} في سورة الأنعام (73).
والنفخ في الصور: عبارة عن أمر التكوين بإحياء الأجساد للبعث مُثِّل الإِحياء بنداء طائفة الجند المكلفة بالأبواق لنداء بقية الجيش حيث لا يتأخر جندي عن الحضور إلى موضع المناداة، وقد يكون للملك الموكّل موجود يصوّت صوتا مؤثّرا.
و{نفخة} مصدر نفخ مقترن بهاء دالة على المرة، أي الوحدة فهو في الأصل مفعول مطلق، أو تقع على النيابة عن الفاعل للعلم بأن فاعل النفخ الملك الموكّل بالنفخ في الصور وهو إسرافيل.
ووصفت {نفخة بـ واحدة} تأكيد لإِفادة الوحدة من صيغة الفعلة تنصيصا على الوحدة المفادة من التاء.
والتنصيص على هذا للتنبيه على التعجيب من تأثر جميع الأجساد البشرية بنفخة واحدة دون تكرير تعجيبا عن عظيم قدرة الله ونفوذ أمره لأن سياق الكلام من مبدأ السورة تهويل يوم القيامة فتعداد أهواله مقصود، ولأجل القصد إليه هنا لم يذكر وصف واحد في قوله تعالى: {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} في سورة الروم (25).
فحصل من ذكر نفحة واحدة تأكيد معنى النفخ وتأكيد معنى الوحدة، وهذا يبين ما روي عن صاحب (الكشاف) في تقريره بلفظٍ مجمل نقله الطيبي، فليس المراد بوصفها بـ {واحدة} أنها غير مُتبعة بثانية فقد جاء في آيات أخرى أنهما نفختان، بل المراد أنها غير محتاج حصولُ المراد منها إلى تكررها كناية عن سرعة وقوع الواقعة، أي يوم الواقعة.
وأما ذكر كلمة {نفخة} فليتأتى إجراء وصف الوحدة عليها فذِكر {نفخة} تبعٌ غير مسوق له الكلام فتكون هذه النفخة هي الأولى وهي المؤذنة بانقرأض الدنيا ثم تقع النفخة الثانية التي تكون عند بعث الأموات.
وجملة {وحُملت الأرض والجبال} إلخ في موضع الحال لأن دكّ الأرضضِ والجبال قد يحصل قبل النفخ في الصور لأن به فناء الدنيا.
ومعنى {حُملت} أنها أُزيلت من أماكنها بأن أُبعدت الأرض بجبالها عن مدارها المعتاد فارتطمت بأجرام أُخرى في الفضاء {فدكّتا}، فشبهت هذه الحالة بحمل الحامل شيئا ليلقيه على الأرض، مثل حمل الكرة بين اللاعبين، ويجوز أن يكون تصرف الملائكة الموكلين بنقض نظام العالم في الكرة الأرضية بإبعادها عن مدارها مشبها بالحمل وذلك كله عند اختلال الجاذبية التي جعلها الله لحفظ نظام العالم إلى أمد معلوم لله تعالى.
والدك: دقّ شديد يكسر الشيء المدقوق، أي فإذا فرقت أجزاء الأرض وأجزاء جبالها.
وبنيت أفعال {نفخ وحُملت ودُكّتا} للمجهول لأن الغرض متعلق ببيان المفعول لا الفاعل وفاعل تلك الأفعال إما الملائكة أو ما أودعه الله من أسباب تلك الأفعال، والكل بإذن الله وقدرته.
وجملة {فيومئذٍ وقعت الواقعة} مشتملة على جواب (إذا)، أعني قوله {وقعت الواقعة} وأما قوله: {فيومئذٍ} فهو تأكيد لمعنى {فإذا نُفخ في الصور} إلخ لأن تنوين (يومئذٍ) عوض عن جملة تدل عليها جملة {نُفخ في الصور} إلى قوله {دكّة واحدة} أي فيوم إذ نفخ في الصور إلى آخره وقعت الواقعة وهو تأكيد لفظي بمرادف المؤكّد، فإن المراد بـ (يوم) من قوله {فيومئذٍ وقعت الواقعة} مطلقُ الزمان كما هو الغالب في وقوعه مُضافا إلى (إذا).
ومعنى {وقعت الواقعة} تحقق ما كان متوقّعا وقوعُه لأنهم كانوا يُتوعّدون بواقعة عظيمة فيومئذٍ يتحقق ما كانوا يُتوعدون به.
فعبر عنه بفعل المضي تنبيها على تحقيق حصوله.
والمعنى: فحينئذٍ تقع الواقعة.
و{الواقعة}: مرادفة للحاقة والقارعة، فذكرها إظهار في مقام الإِضمار لزيادة التهويل وإفادة ما تحتوي عليه من الأحوال التي تنبئ عنها موارد اشتقاق أوصاف الحاقة والقارعة والواقعة.
و{الواقعة} صار علما بالغلبة في اصطلاح القرآن يوم البعث قال تعالى: {إذا وقعت الواقعة ليس لوقْعتِها كاذبة} [الواقعة: 12].
وفعل {انشقت السماء} يجوز أن يكون معطوفا على جملة {نفخ في الصور} فيكون ملحقا بشرط (إذا)، وتأخيرُ عطفه لأجل ما اتصل بهذا الانشقاق من وصف الملائكة المحيطين بها، ومن ذكر العرش الذي يحيط بالسماوات وذكر حملته.
ويجوز أن يكون جملة في موضع الحال بتقدير: وقد انشقت السماء.
وانشقاق السماء: مطاوعتها لِفعل الشق، والشقُّ: فتح منافذ في محيطها، قال تعالى: {ويوم تشقق السماء بالغمام ونزّل الملائكة تنزيلا المُلكُ يومئذٍ الحقُ للرحمان وكان يوما على الكافرين عسيرا} [الفرقان: 25، 26].
ثم يحتمل أنه غير الذي في قوله تعالى: {فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان} [الرحمن: 37] ويحتمل أنه عينه.
وحقيقة {واهية} ضعيفة ومتفرقة، ويستعار الوهي للسهولة وعدم الممانعة، يقال: وهى عزمه، إذا تسامح وتساهل، وفي المثل (أوهى من بيت العنكبوت) يضرب لعدم نهوض الحجة.
وتقييده بـ {يومئذٍ} أن الوهي طرا عليها بعد أن كانت صلبة بتماسك أجزائها وهو المعبر عنه في القرآن بالرتق كما عبر عن الشق بالفتق، أي فهي يومئذٍ مطروقة مسلوكة.
والوهي: قريب من الوهن، والأكثر أن الوهْي يوصف به الأشياء غير العاقلة، والوهن يوصف به الناس.
والمعنى: أن الملائكة يترددون إليها صعودا ونزولا خلافا لحالها مِن قبلُ قال تعالى: {فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان} [الرحمن: 37].
وجملة {والملك على أرجائها} حال من ضمير {فهي}، أي ويومئذٍ الملك على أرجائها.
و{الملك}: أصله الواحد من الملائكة، وتعريفه هنا تعريف الجنس وهو في معنى الجمع، أي جنس الملك، أي جماعة من الملائكة أو جميع الملائكة إذا أريد الاستغراق، واستغراق المفرد أصرح في الدلالة على الشمول، ولذلك قال ابن عباس: الكتابُ أكْثرُ من الكُتب، ومنه {ربّ إني وهن العظمُ منّي} [مريم: 4].
والأرجاء: النواحي بلُغة هذيل، واحدُها رجا مقصورا وألفه منقلبة عن الواو.
وضمير {أرجائها} عائد إلى {السماء}.
والمعنى: أن الملائكة يعملون في نواحي السماء ينفّذون إنزال أهل الجنة بالجنة وسوق أهل النار إلى النار.
وعرش الرب: اسم لما يحيط بالسماوات وهو أعظم من السماوات.
والمراد بالثمانية الذين يحملون العرش: ثمانيةٌ من الملائكة، فقيل: ثمانية شخوص، وقيل: ثمانية صُفوف، وقيل ثمانية أعشار، أي نحو ثمانين من مجموع عدد الملائكة، وقيل غير ذلك، وهذا من أحوال الغيب التي لا يتعلق الغرض بتفصيلها، إذ المقصود من الآية تمثيل عظمة الله تعالى وتقريب ذلك إلى الأفهام كما قال في غير آية.
ولعل المقصود بالإِشارة إلى ما زاد على الموعظة، هو تعليم الله نبيئه شيئا من تلك الأحوال بطريقة رمزية يفتح عليه بفهم تفصيلها ولم يُرد تشغيلنا بعلمها.
وكأنّ الدّاعي إلى ذكرهم إجمالا هو الانتقال إلى الأخبار عن عرش الله لئلا يكون ذكره اقتضابا بعد ذكر الملائكة.
وروى الترمذي عن العباس بن عبد المطلب عن النبي حديثا ذكر فيه أبْعاد ما بين السماوات، وفي ذكر حملة العرش رموز ساقها الترمذي مساق التفسير لهذه الآية، وأحد رواتِه عبد الله بن عُميرة عن الأحْنف بن قيس قال البخاري: لا نعلم له سماعا عن الأحنف.
وهنالك أخبار غير حديث العباس لا يعبأ بها، وقال ابن العربي فيها: إنها متلفقات من أهل الكتاب أو من شعر لأمية بن أبي الصلت، ولم يصح أن النبي أنشد بين يديه فصدّقه.
اهـ.
وضمير {فوقهم} يعود إلى {الملك}.
ويتعلق {فوقهم} بـ {يحمل عرش ربّك} وهو تأكيد لما دّل عليه يحمل من كون العرش عاليا فهو بمنزلة القيدين في قوله: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه} [الأنعام: 38].
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وإضافة عرش إلى الله إضافة تشريف مثل إضافة الكعبة إليه في قوله: {وطهر بيتي للطائفين} الآية [الحج: 26]، والله منزه عن الجلوس على العرش وعن السكنى في بيت.
والخطاب في قوله: {تُعرضون} لجميع الناس بقرينة المقام وما بعد ذلك من التفصيل.
والعرض: أصله إمْرار الأشياء على من يريد التأمل منها مثل عرض السلعة على المشتري وعرض الجيش على أميره، وأطلق هنا كناية عن لازمه وهو المحاسبة مع جواز إرادة المعنى الصريح.
ومعنى {لا تخفى منكم خافية} لا تخفى على الله ولا على ملائكته.
وتأنيث {خافية} لأنه وصف لموصوف مؤنث يقدر بالفعلة من أفعال العباد، أو يقدر بنفْس، أي لا تختبئ من الحساب نفس أي أحد، ولا يلتبس كافر بمؤمن، ولا بارٌّ بفاجر.
وجملة {يومئذٍ تعرضون} مستأنفة، أو هي بيان لجملة {فيومئذٍ وقعت الواقعة} أو بدل اشتمال منها.
و{منكم} صفة ل {خافية} قدمت عليه فتكون حالا.
وتكرير {يومئذٍ} أربع مرات لتهويل ذلك اليوم الذي مبدؤه النفخ في الصور ثم يعقبه ما بعده مما ذكر في الجُمل بعده، فقد جرى ذكر ذلك اليوم خمس مرات لأن {فيومئذٍ وقعتْ الواقعة} تكرير ل (إذا) من قوله: {فإذا نفخ في الصور} إذ تقدير المضاف إليه في {يومئذٍ} هو مدلول جملة {فإذا نفخ في الصور} فقد ذكر زمان النفخ أولا وتكرر ذكره بعد ذلك أربع مرات.
وقرأ الجمهور {لا تخفى} بمثناة فوقية.
وقرأه حمزة والكسائي وخلف بالتحتية لأن تأنيث {خافية} غير حقيقي، مع وقوع الفصل بين الفعل وفاعله. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{الحاقة} أي السّاعةُ، أو الحالةُ الثابتةُ الوقوعِ الواجبةُ المجيءِ لا محالة، أو التي يحقُّ فيها الأمورُ الحقةُ من الحسابِ والثوابِ والعقابِ، أو التي تُحقُّ فيها الأمورُ أي تُعرفُ على الحقيقةِ من حقّهُ يحِقُّه إذا عرف حقيقتهُ، جُعل الفعلُ لها مجازا وهو لِما فيها من الأمورِ أو لمنْ فيها من أُولِي العلمِ وأيّا ما كان فحذفُ الموصوفِ للإيذان بكمالِ ظهورِ اتصافهِ بهذِهِ الصفةِ وجريانِها مجرى الإسمِ، وارتفاعُها على الابتداءِ، خبرُها {ما الحاقة} على أنّ {ما} مبتدأٌ ثانٍ، و{الحاقّةُ} خبرُهُ، والجملة خبرٌ للمبتدأ الأولِ. والأصلُ ما هي أيْ أيُّ شيءٍ هي في حالِها وصفتِها فإنّ ما قدْ يُطلبُ بها الصفةُ والحالُ، فوضعُ الظاهرِ موضع المضمرِ تأكيدا لهولها. هذا ما ذكرُوهُ في إعرابِ هذه الجملة ونظائرِها، وقد سبق في سورةِ الواقعةِ أنّ مُقتضى التحقيقِ أنْ تكون ما الاستفهاميةُ خبرا لما بعدها فإنّ مناط الإفادةِ بيانُ أنّ الحاقة أمرٌ بديعٌ وخطْبٌ فظيعٌ كما يفيدُهُ كونُ ما خبرا لا بيانُ أنّ أمرا بديعا الحاقةُ كما يفيدُهُ كونُها مبتدأ وكونُ {الحاقّةِ} خبرا. وقوله تعالى: {وما أدْراك} أي وأيُّ شيءٍ أعلمك {ما الحاقة} تأكيدٌ لهولِها وفظاعتِها ببيانِ خروجِها عن دائرةِ علومِ المخلوقاتِ على معْنى أنّ عظم شأنِها ومدى هولِها وشدّتِها بحيثُ لا تكادُ تبلغُهُ درايةُ أحدٍ ولا وهمُهُ وكيفما قدرت حالها فهي أعظمُ من ذلك وأعظمُ فلا يتسنّى الإعلامُ. و{ما} في حيزِ الرفعِ على الابتداءِ، وأدراك خبرُهُ. ولا مساغ هاهنا للعكسِ. و{ما الحاقّةُ} جملة من مبتدأٍ وخبرٍ على الوجهِ الذي عرفتهُ، محلُّها النصبُ على إسقاطِ الخافضِ لأنّ أدْرى يتعدّى إلى المفعولِ الثّانِي بالباءِ كما في قوله تعالى: {ولا أدْراكُمْ بِهِ} فلمّا وقعتْ جملة الاستفهامِ معلّقة لهُ كانتْ في موضعِ المفعولِ الثانِي والجملة الكبيرةُ معطوفةٌ على ما قبلها من الجملة الواقعةِ خبرا لقوله تعالى: {الحاقة} مؤكدةٌ لهولِها كما مرّ {كذّبتْ ثمُودُ وعادٌ بالقارعة} أيْ بالحالةِ التي تقرعُ النّاس بفنونِ الأفزاعِ والأهوالِ والسماء بالانشقاقِ والانفطارِ، والأرض والجبال بالدكِّ والنسفِ، والنجوم بالطمسِ والانكدارِ. ووضعُها موضع ضميرِ {الحاقّةِ} للدلالةِ على معْنى القرعِ فيها تشديدا لهولِها، والجملة استئنافٌ مسوقٌ لإعلامِ بعضِ أحوالِ الحاقّةِ لهُ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ إثر تقريرِ أنّه ما أدراهُ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ بها أحدٌ، كما في قوله تعالى: {وما أدْراك ماهِيهْ نارٌ حامِيةٌ} ونظائرُهُ خلا أنّ المبيِّن هناك نفسُ المسؤولِ عنْها وهاهنا حالٌ منْ أحوالِها، كما في قوله تعالى: {وما أدْراك ما ليْلةُ القدر ليْلةُ القدر خيْرٌ مّنْ ألْفِ شهْرٍ} فكما أنّ المبيّن هناك ليس نفس ليلةِ القدرِ بل فضلها وشرفها، كذلك المبيّنُ هاهنا هولُ الحاقةِ وعظمُ شأنِها وكونُها بحيثُ يحقُّ إهلاكُ منْ يكذبُ بها كأنّه قيل وما أدراك ما الحاقةُ كذبتْ بها ثمودُ وعادٌ فأُهلِكُوا.
{فأمّا ثمُودُ فأُهْلِكُواْ بالطاغية} أي بالواقعةِ المجاوزةِ للحدِّ، وهي الصِّيحةُ أو الرّاجفةُ {وأمّا عادٌ فأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صرْصرٍ} أي شديدةِ الصّوتِ لها صرصرةٌ، أو شديدةُ البردِ تحرقُ ببردِها {عاتِيةٍ} شديدةِ العصفِ كأنّها عتتْ على خُزّانِها فلم يتمكنُوا من ضبطِها أو على عادٍ فلم يقدرُوا على ردِّها. وقوله تعالى: {سخّرها عليْهِمْ} إلخ استئنافٌ جيء بهِ بيانا ليكفيةِ إهلاكِهِم بالريحِ أي سلّطها الله عليهِم بقدرتِه القاهرةِ {سبْع ليالٍ وثمانية أيّامٍ حُسُوما} أي متتابعاتٍ، جمعُ حاسمٍ كشهودٍ جمعُ شاهدٍ من حسمتُ الدابةُ إذا تابعتُ بين كيِّها أو نحساتٌ حسمتْ كلّ خيرٍ واستأصلتهُ أو قاطعاتٌ قطعتْ دابرهُم، ويجوزُ أنْ يكون مصدرا منتصبا على العلةِ بمعنى قطعا أو على المصدرِ لفعلِهِ المقدرِ حالا أي تحسمُهُم حُسوما، ويؤيدُه القراءة بالفتحِ. وهي كانتْ أيام العجوزِ من صبيحةِ أربعاء إلى غروبِ الأربعاءِ الآخرِ، وإنّما سُمِّيتْ عجُوزا لأنّ عجُوزا من عادٍ توارتْ في سِرْبٍ فانتزعتْها الريحُ في اليومِ الثامنِ فأهلكتْها، وقيل هي أيامُ العجزِ وهي آخرُ الشتاءِ وأسماؤُها الصِنُّ والصِّنّبرُ والوبرُ والآمرُ والمؤتمرُ والمعللُ ومطفئُ الجمْرِ وقيل ومُكفئُ الظعنِ. {فترى القوم} إنْ كنت حاضرا حينئذٍ {فِيها} في مهابِّها أو في تلك الليالِي والأيامِ {صرعى} موْتى جمعُ صريعٍ {كأنّهُمْ أعْجازُ نخْلٍ} أي أصولُ نخلٍ {خاوِيةٍ} متآكلةِ الأجوافِ.
{فهلْ ترى لهُم مّن باقِيةٍ} أي بقيةٍ أو نفسٍ باقيةٍ أو بقاءٍ على أنّها مصدرٌ كالكاذبةِ والطاغيةِ. {وجاء فِرْعوْنُ ومن قبْلهُ} أيْ ومنْ تقدّمهُ. وقرئ {ومنْ قبلهُ} أيْ ومنْ عندهُ من أتباعِهِ، ويؤيدُهُ أنّه قرئ {ومنْ معهُ} {والمؤتفكات} أي قرى قومٍ لوطٍ أي أهلُها {بِالْخاطِئةِ} بالخطإِ أو بالفعلةِ أو الأفعالِ ذاتِ الخطإِ التي من جُمْلتِها تكذيبُ البعثِ والقيامةِ.
{فعصوْاْ رسُول ربّهِمْ} أي فعصى كلُّ أُمّةٍ رسولها حين نهوهُم عمّا كانُوا يتعاطونهُ من القبائحِ {فأخذهُمْ} أي الله عزّ وجلّ {أخْذة رّابِية} أي زائدة في الشدةِ كما زادتْ قبائحُهُم في القبحِ من ربا الشيءُ إذا زاد. {إِنّا لمّا طغا الماء} بسببِ إصرارِ قومِ نوحٍ على فنونِ الكفرِ والمعاصِي ومبالغتِهِم في تكذيبِهِ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ فيما أوحى إليهِ من الأحكامِ التي من جُمْلتِها أحوالُ القيامةِ. {حملناكم} أي في أصلابِ أبائِكُم {فِى الجارية} في سفينةِ نوحٍ عليه السلام والمرادُ بحملِهِم فيها رفعُهُم فوق الماءِ إلى انقضاءِ أيامِ الطُّوفانِ، لا مجردُ رفعِهِم إلى السفينةِ كما يُعربُ عنهُ كلمةُ في فإنّها ليستْ بصلةٍ للحملِ بلْ متعلقةٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من مفعولِهِ أي رفعناكُم فوق الماءِ وحفظناكُم حال كونِكُم في السفينةِ الجاريةِ بأمرِنا وحفظِنا، وفيه تنبيهٌ على أنّ مدار نجاتِهِم محضُ عصمتِهِ تعالى إنّما السفينةُ سببٌ صُوريٌّ {لِنجْعلها} أي لنجعل الفعلة التي هي عبارةٌ عن إنجاءِ المؤمنين وإغراقِ الكافرين. {لكُمْ تذْكِرة} عبرة ودلالة على كمالِ قُدرةِ الصّانعِ وحكمتِهِ وقوةِ قهرِهِ وسعةِ رحمتِهِ {وتعِيها} أي تحفظُها والوعيُ أنْ تحفظ الشيء في نفسِك والإيعاءُ أن تحفظهُ في غيرِ نفسِك من وعاءٍ وقرئ {تعْيها} بسكونِ العينِ تشبيها له بكتفٍ. {أُذُنٌ واعية} أي أذنٌ من شأنِها أنْ تحفظ ما يجبُ حفظُهُ بتذكرِهِ وإشاعتِهِ والتفكرِ فيهِ ولا تضيعُهُ بتركِ العملِ بهِ. والتنكيرُ للدلالةِ على قلّتِها وأنّ من هذا شأنُه مع قلتِهِ يتسببُ لنجاةِ الجمِّ الغفيرِ وإدامةِ نسلِهِم. وقرئ {أُذْنٌ} بالتخفيفِ. {فإِذا نُفِخ في الصور نفْخةٌ واحدة} شروعٌ في بيانِ نفسِ الحاقّةِ وكيفيةِ وقوعِها إثر بيانِ عظمِ شأنِها بإهلاكِ مكذبيها، وإنّما حسُن إسنادُ الفعلِ إلى المصدرِ لتقييدِه وحسُن تذكيرُهُ للفصلِ. وقرئ {نفخة واحدة} بالنصبِ على إسنادِ الفعلِ إلى الجارِّ والمجرورِ، والمرادُ بها النفخةُ الأُولى التي عندها خرابُ العالمِ. {وحُمِلتِ الأرض والجبال} أي وقُلعتْ ورُفعتْ من أماكنِها بمجردِ القدرةِ الإلهيةِ أوبتوسطِ الزلزلةِ أو الريحِ العاصفةِ. {فدُكّتا دكّة واحدة} أيْ فضُربتْ الجملتانِ إثر رفعِهِما بعضِها ببعضٍ ضربة واحدة حتى تندقّ وترجع كثيبا مهيلا وهباء منبثا، وقيل فبُسطتا بسطة واحدة فصارتا قاعا صفصفا لا ترى فيها عِوجا ولا أمْتا من قولهِم اندكّ السنامُ إذا تفرش وبعيرٌ أدكُّ وناقةٌ دكاءُ ومنهُ الدكانُ. {فيوْمئِذٍ} فحينئذٍ {وقعتِ الواقعة} أي قامتِ القيامةُ.
{وانشقت السماء} لنزولِ الملائكةِ {فهِى} أي السماءُ {يوْمئِذٍ واهِيةٌ} ضعيفةٌ مسترخيةٌ بعدما كانتْ محكمة {والملك} أي الخلقُ المعروفُ بالملكِ {على أرْجائِها} أي جوانِبِها جمعُ رجا بالقصرِ أي تنشقُّ السماءُ التي هي مساكنُهُم فيلجأون إلى أكنافِها وحافاتِها.
{ويحْمِلُ عرْش ربّك فوْقهُمْ} فوق الملائكةِ الذين هُم على الأرجاءِ أو فوق الثمانيةِ {يوْمئِذٍ ثمانية} من الملائكةِ عن النبيِّ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ «هُم اليوم أربعةٌ فإذا كان يومُ القيامةِ أيدهُم الله تعالى بأربعةٍ آخرين فيكونون ثمانية». ورُوِي «ثمانيةُ أملاكٍ أرجلهُم في تخومِ الأرضِ السابعةِ والعرشُ فوق رؤوسِهِم وهم مُطرقون مسبحون». وقيل: بعضُهُم على صورةِ الإنسانِ وبعضُهُم على صورةِ الثورِ وبعضُهُم على صورةِ النسرِ. ورُوي «ثمانيةُ أملاكٍ في خلقْ الأوعالِ ما بين أظلافِها إلى رُكبِها مسيرةُ سبعين عاما». وعن شهْرِ بنِ حوشبٍ أربعةٌ منهُم يقولون: سبحانك اللهمّ وبحمدِك لك الحمدُ على عفوِك بعد قدرتِك، وأربعة يقولون سبحانك اللهمّ وبحمدِك لك الحمدُ على حلمِك بعد علمِك. وعنِ الحسنِ الله أعلمُ أثمانيةٌ أم ثمانيةُ آلافٍ وعن الضحّاكِ ثمانيةُ صفوفٍ لا يعلمُ عددهُم إلا الله تعالى. ويجوزُ أنْ يكون الثمانيةُ من الروحِ أو من خلقٍ آخر. وقيل: هو تمثيلٌ لعظمتِهِ تعالى بما يشاهدُ من أحوالِ السلاطينِ يوم خروجِهِم على الناسِ للقضاءِ العامِ لكونِها أقْصى ما يتصورُ من العظمةِ والجلالِ وإلا فشؤونُهُ سبحانه أجلُّ من كلّ ما يحيطُ بهِ فلكُ العبارةِ والإشارةِ {يوْمئِذٍ تُعْرضُون} أي تُسألون وتُحاسبون، عبِّر عنهُ بذلك تشبيها لهُ بعرضِ السلطانِ العسكر لتعرّفِ أحوالِهِم. رُوِي أنّ في يومِ القيامةِ ثلاث عرضاتٍ فأما عرضتانِ فاعتذارٌ واحتجاجٌ وتوبيخٌ وأما الثالثةُ ففيها تنشرُ الكتبُ فيأخذُ الفائزُ كتابهُ بيمينِهِ والهالكُ بشمالِهِ، وهذا وإنْ كان بعد النفخةِ الثانيةِ لكنْ لما كان اليومُ إسما لزمانٍ متسعٍ. يقعُ فيهِ النفختانِ والصعقةُ والنشورُ والحسابُ وإدخالُ أهلِ الجنةِ الجنة وأهلِ النارِ النار. صحّ جعلُهُ ظرفا للكُلِّ {لا تخفى مِنكُمْ خافِيةٌ} حالٌ من مرفوعِ {تُعرضون} أي تُعرضون غير خافٍ عليهِ تعالى سرٌّ من أسرارِكُم قبل ذلك أيضا وإنّما العرضُ لإفشاءِ الحالِ والمبالغةِ في العدلِ، أو غيرِ خافٍ يومئذٍ على الناسِ كقوله تعالى: {يوْم تبلى السرائر} وقرئ يخْفى بالياءِ التحتانيةِ. اهـ.